الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} {ذلك} أي الضرب والعذاب اللذان هما هما وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} والباء للسببية، وتقديم الأيدي مجاز عن الكسب والفعل، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، وقوله سبحانه: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} قيل خبر مبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعاً على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان كمال نزاهته تعالى بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم. وقال البيضاوي بيض الله غرة أحواله: هو عطف على {مَا} للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم. لا أن لا يعذبهم بذنوبهم، فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب وأراد بذلك الرد على الزمخشري عامله الله تعالى بعدله حيث جعل كلاً من الأمرين سبباً بناءً على مذهبه في وجوب الأصلح، فقوله: لا أن لا يعذبهم عطف على أن يعذبهم والمعنى أن سبب هذا القيد دفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن، وقوله للدلالة الخ على معنى أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب، فحاصل معنى الآية أن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر. فلا يرد عليه ما قيل: كون تعذيب الله تعالى للعباد بغير ذنب ظلماً لا يوافق مذهب الجماعة، وما قيل: إن هذا يخالف ما في آل عمران من أن سببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسىء مدفوع بأن لنفي الظلم معنيين: أحدهما ما ذكر من إثابة المحسن إلخ، والآخر عدم التعذيب بلا ذنب وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه. وأما جعله هناك سبباً وهنا قيداً للسبب فلا يوجب التدافع أيضاً فإن المراد كما ذكرنا فيما قبل بالسبب الوسيلة المحضة وهو وسيلة سواء اعتبر سبباً مستقلاً أو قيداً للسبب. ولمولانا شيخ الإسلام في هذا المقام كلام لا يخفى عليك رده بعد الوقوف على ما ذكرنا. وقد تقدم لك بسط الكلام فيه، ومن الناس من بين قول القاضي: للدلالة الخ بقوله يريد أن سببية الذنوب للعذاب تتوقف على انتفاء الظلم منه تعالى فإنه لو جاز صدوره عنه سبحانه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم. فلا يصلح أن يكون الذنب سبباً للعذاب لا في هذه الصورة ولا في غيرها؛ ثم قال: فإن قلت: لا يلزم من هذا إلا نفي انحصار السبب للعذاب في الذنوب لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب، ولا ينافي هذا كونها سبباً له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر. فلا يتم التقريب. قلت: السبب المفروض في الصورة المذكورة إن أوجب استحقاق العذاب يكون ذنباً لا محالة. والمفروض خلافه وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سبباً إذ لا معنى لكون شيء سبباً إلا كونه مقتضياً لاستحقاقه له فإذا انتفى هذا ينتفي ذلك، وبالجملة فمآل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لانحصار السبب فيه انتهى. ورد بأن قوله: وإن لم يوجب فلا يتوصر أن يكون سبباً ممنوع فإن السبب الموجب ما يكون مؤثراً في حصول شيء سواء كان عن استحقاق أو لم يكن، ألا يرى أن الضرب بظلم والقتل كذلك سببان للإيلام والموت مع أنهما ليسا عن استحقاق، فاعتراض السائل واقع موقعه ولا يمكن التقصي عنه إلا بما قرر سابقاً من معنى الآية، فإن المقام مقام تعيين السببية وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه سبحانه وتعالى، ومن هنا علم أن قوله: وبالجملة الخ ليس بسديد فإن مبناه كون الاستحقاق شرطاً للسببية وقد مر ما فيه مع ما فيه من المخالفة لكلام الاجلة من كون نفي الظلم سبباً آخر للتعذيب لأن سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب وكونها سبباً للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب إلى كونه بدون السبب فتأمل فالمقام معترك الإفهام، ثم أن المراد في الآية نفى نفس الظلم وإنما كثر توزيعاً على الآحاد كأنه قيل: ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان وهكذا فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك، وجوز أن يكون إشارة إلى عظم العذاب على سبيل الكناية وذلك لأن الفعل يدل بظاهره على غاية الظلم إذا لم يتعلق بمستحقه فإذا صدر ممن هو أعدل العادلين دل على أنه استحق أشد العذاب لأنه أشد المسيئين. قال في «الكشف»: وهذا أوفق للطائف كلام الله تعالى المجيد، وفيه وجوه أخر مر لك بعضها وقوله تعالى:
{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)} {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب الخ؛ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة، والدأب العادة المستمرة ومنه قوله: وما زال ذاك الدأب حتى تجادلت *** هوازن وارفضت سليم وعامر والمراد شأنهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آل فرعون وأصحابه من الأمم الذين فعلوا ما فعلوا ولقوا من العذاب ما لقوا كقوم نوح. وعاد. واضرابهم، وقوله تعالى: {كَفَرُواْ بئايات الله} تفسير لدأبهم لكن بملاحظة أنه الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ومن بعدهم فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه. والجملة لا محل لها من الاعراب لما أشير إليه، وكذا على ما قيل: من أنها مستأنفة استئنافاً نحوياً أو بيانياً، وقيل: انها حالية بتقدير قد فهي في محل نصب، وقوله سبحانه: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} عطف عليها وحكمة في التفسير حكمها لكن بملاحظة الدأب الذي فعل بهم، والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها. وذكر الذنوب لتأكيد ما أفدته الفاء من السببية من الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أخر لها دخل في استتباع العقاب، وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت اما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة، وإلى كون المراد بدأبهم مجموع ما فعلوه وما فعل بهم يشير ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن آل فرعون أيقنوا بأن موسى عليه السلام نبي الله تعالى فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى لهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون، وإلى ذلك ذهب ابن الخازن وغيره، وقيل: المراد بدأبهم ما فعلوا فقط، وقيل: ما فعل بهم فقط، وليس بشيء. وقوله سبحانه: {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ أي أنه سبحانه لا يغلبه غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} {ذلك} اشارة إلى ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطاً بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضية، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {بِأَنَّ الله} إلى آخره، والباء للسببية، والجملة مسوقة لتعليل ما أشير إليه أي ذلك كائن بسبب أن الله سبحانه {لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا} أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها {على قَوْمٍ} من الأقوام {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة كدأب كفرة قريش المذكورين حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام مستمرين على حال مصححة لافاضة نعم الامهال وسائر النعم الدنيوية عليهم كصلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل عليهم السلام فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم غيروها على أسوء حال منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم وقطعوا أرحامهم فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الامهال ووجه إليهم نبال العقاب والنكال، وقيل: إنهم لما كانوا متمكنين من الايمان ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] ولا يخلو عن حسن. وجعل بعضهم الإشارة إلى ما حل بهم ثم أنه لما رأى أن انتفاء تغيير الله تعالى حتى يغيروا لا يقتضي تحقق تغييره إذا غيروا وأن العدم ليس سبباً للوجود هنا وأيضاً عدم التغيير صارف عما حل بهم لا موجب له بحسب الظاهر قال: إن السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها، وهو جرى عادته سبحانه على التغيير حين غيروا حالهم فالسبب ليس انتفاء التغيير بل التغيير، قيل: وإنما أوثر التعبير بذلك لأن الأصل عدم التغيير من الله تعالى لسبق إنعامه ورحمته ولأن الأصل فيهم الفطرة وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقر عليه الحال من ذلك لا أن كونه عادة له دخل في السببية، ولا يخفى أن ما ذكرناه أسلم من القيل والقال على أن ما فعله البعض لا يخلو بعد عن مقال فتدبر، وأصل {يَكُ} يكن فحذفت النون تخفيفاً لشبهها بأحرف العلة في أنها من الزوائد وهي تحذف من أحرف المجزوم فلذا حذفت هذه وهو مختص بهذا الفعل لكثرة استعماله {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطف على {إِنَّ الله} الخ داخل معه في حيز التعليل، أي وسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون ويذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق من إبقاء النعمة وتغييرها. وقرىء {وَأَنَّ الله} بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبله.
{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بئايات رَبّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} استئناف آخر على ما ذكره بعض المحققين مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعْل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً} [الأنفال: 53] تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وأشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى لما فيه من الدلالة على أنه مربيهم المنعهم عليهم، وقوله سبحانه: {فأهلكناهم} تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييرهم تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه. وفي الاهلاك رمز إلى التغيير ولذا عبر به دون الأخذ المعبر به أولا وليس الأخذ مثله في ذلك، ألا ترى أنه كثيراً ما يطلق الاهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه ولم نر اطلاق الأخذ على ذلك، وقيل؛ إنما عبر أولا بالأخذ وهنا بالاهلاك لأن جنايتهم هنا الكفران وهو يقتضي أعظم النكال والاهلاك مشير إليه ولا كذلك ما تقدم وفيه نظر، وأما دأب قريش فمستفاد مما ذكر بحكم التشبيه فلله تعالى در التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين، وفي الفرائد أن هذا ليس بتكرير لأن معنى الأول حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم وأتاهم العذاب، ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم وتغيير الله تعالى حالهم بسبب ذلك التغيير وهو أنه سبحانه أغرقهم بدليل ما قبله وما ذكرناه أتم تحريراً، واعترضه العلامة الطيبي بأن النظم الكريم يأباه لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب فكذلك ينبغي أن يكون وجه في الثاني ما يفهم من قوله سبحانه: {كَذَّبُواْ} الخ لأنه مثله لأن كلا منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه كما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وأما قوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله} [الأنفال: 53] الخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم بل هو متناول لجميع من يغير نعمة الله تعالى من الأمم السابقة واللاحقة فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول وايقاعه وجهاً للتشبيه مع وجوده صريحاً كما علمت بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين ووقف على ترتيب النظم من الآيتين انتهى. ولا يخفى أن هذا غير وارد على ما قدمناه عند التأمل. والقول في التفرقة بين الآيتين أن الأولى لبيان حالهم في استحقاقهم عذاب الآخرة والثانية لبيان استحقاقهم عذاب الدنيا، أو أن المقصود أولاً تشبيه حالهم بحال المذكورين في التكذيب والمقصود ثانياً تشبيه حالهم في الاستئصال، أو أن المراد فيما تقدم بيان أخذهم بالعذاب وهنا بيان كيفيته مما لا ينبغى أن يعول عليه. وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: {كَدَأْبِ} في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييراً كائناً كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه كما هو الأنسب بمفهوم الدأب، وقوله تعالى: {كَذَّبُواْ} الخ تفسير له بتمامه، وقوله سبحانه: {فأهلكناهم} الخ إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله عز شأنه: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53] بينهما سواء عطفاً أو استئنافاً، وفيه خروج الآية عن نمط أختها بالكلية. وأيضاً لا وجه لتقييد التغيير الذي يترتب عليه تغيير الله تعالى بكونه كتغيير آل فرعون على أن كون الجار في محل النصب على أنه نعت بعيد مع وجود ذلك الفاصل وإن قلنا بجواز الفصل، ومن أنصف علم أن بلاغة التنزيل تقتضي الوجه الأول، والالتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جرياً على سنن الكبرياء لتهويل الخطب، وهذا لا ينافي النكتة التي أشرنا إليها سابقاً كما لا يخفى، والكلام في الفاء وذكر الذنوب على طرز ما ذكرنا في نظيره، وقوله سبحانه: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ} عطف على {أَهْلَكْنَا} وفي عطفه عليه مع اندراج مضمونه تحت مضمونه إيذان بكمال هول الاغراق وفظاعته {وَكُلٌّ} أي كل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك أو كل من آل فرعون وكفار قريش على ما قيل بناء على أن ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحاً وتعييناً وأن مثله يكفي قرينة للتخصيص {كَانُواْ ظالمين} أي أنفسهم بالكفر والمعاصي ولو عمم لكان له وجه أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)} {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي في حكمه وقضائه {الذين كَفَرُواْ} أي أصروا على الكفر ورسخوا فيه، وهذا شروع في بيان أحوال سائر الكفرة بعد بيان أحوال المهلكين منهم ولم يقل سبحانه شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم بل هم من جنس الدواب وأشر أفراده {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف جيء به على وجه الاعتراض، وقيل: عطف على الصلة مفهم معنى الحال كأنه قيل: إن شر الدواب الذين كفروا مصرين على عدم الإيمان، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا علمات أن أولئك شر الدواب فاعلم أنهم لا يؤمنون أصلا فلا تتعب نفسك، وقيل: هي للعطف وفي ذلك تنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف حيث جعل ذلك مترتباً عليه ترتب المسبب على سببه والكل كما ترى.
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} {الَّذِينَ عاهدت مِنْهُمْ} بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على الذم، وعائد الموصول قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد عاهدتهم و{مِنْ} للإيذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا اعطاؤه عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وإلى هذا يرجع قولهم: إن {مِنْ} لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذاً منهم. وقال أبو حيان: انها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لأكلهم، وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف، أي الذين عاهدتهم كائنين منهم، وقيل: هي زائدة وليس بذاك، وقوله سبحانه: {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} عطف على الصلة، وصيغة الاستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال، أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد، وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} في موضع الحال من فاعل ينقضون، أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله تعالى فيه، وقيل: لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم، والآية على ما قال جمع نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فاعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام فنكثوا ومالؤهم عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو الشخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت، ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر، والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة، أي إذا كان حالهم كما ذكر فأما تصادفنهم وتظفرن بهم دفي الْحَرْب} أي في تضاعيفها {فَشَرّدْ بِهِم} أَي فرق بِهِم {مّنْ خَلْفِهِمْ} أي من وراءهم من الكفرة، يعني افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم، وإلى هذا يرجع ما قيل: من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم، وقيل: إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر: أطوف بالاباطح كل يوم *** مخافة أن يشرد بي حكيم وقرأ ابن مسعود. والأعمش {فشرذ} بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة، وعن ابن جنى أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلاً من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان، وقيل: إنه قلب من شذر، ومنه شذر مذر للمتفرق، وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة، وقرأ أبو حيون {بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} بمن الجارة، والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي *** فالمعنى افعل التشريد من ورائهم، وهو في معنى جعل الوراء ظرفاً للتشريد لتقارب معنى مِنْ وفي تقول: اضرب زيداً من وراء عمرو وورائه أي في وراءه، وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل: أو عن الكفر.
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد اثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل، والخوف مستعار للعلم، أي واما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل {فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرح إليهم عهدهم، وفيه استعارة مكنية تخييلية {على سَوَاء} أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم اخباراً مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في {انبذ} أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء، وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا، أي حال كونهم كائنين على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وادناهم، أو حال كونك أنت وهم على استواء في ذلك، ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهوراً مقطوعاً به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر، ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كتانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم {سَوَاء إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} تعليل للأمر بالنبذ باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيراً للنبي صلى الله عليه وسلم منها. وجوز أن يكون تعليلاً لذلك باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم، والأول هو المتبادر، وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى:
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)} {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ} بياء الغيبة وهي قراءة حفص. وابن عامر. وأبي جعفر. وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم أنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها إلا ولان أيضاً، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: إنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم. والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكى عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وان سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود {أَنَّهُمْ سَبَقُواْ}. واعترضه أبو البقاء. وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه. وقرأ من عدا من ذكر {تَحْسَبَنَّ} بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ في الخطاب {والذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ} مفعولاه ولا كلام في ذلك. وقرأ الأعمس {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين} بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف. وقرأ ابن عامر {أَنَّهُمْ} بفتح الهمزة وهو تعليل أيضاً بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله. وقيل: الفعل واقع عليه، و{لا} صلة ويؤيده أنه قرىء بحذفها و{سَبَقُواْ} حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين. وضعف بأن {لا} لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة، وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه ايقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين، وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه. وذكر الجبائي أن {لاَ يُعْجِزُونَ} على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضاً للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن عدم الاعجاز كيفما قدر المفعول اشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا، فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه ان صح. وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقاً اما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار. وذكر أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه. وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين، وروي ذلك عن الزهري. وقرىء {يُعْجِزُونَ} بالتشديد. وقرأ ابن محيصن {يُعْجِزُونَ} بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء اكتفاء بالكسرة، ومثله كثير في الكتاب.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم كما يقتضيه السباق أو لقتال الكفار على الاطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده {مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} أي من كل ما يتقوى به في الحرب كائناً ما كان، وأطلق عليه القوة مبالغة، وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن له في بدر استعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير القوة بأنواع الأسلحة، وقال عكرمة: هي الحصون والمعاقل. وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل. وأخرج أحمد. ومسلم. وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة إلا أن القوة الرمي قالها ثلاثا " والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى بها فهو من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة ". وقد مدح عليه الصلاة والسلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام " كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة انتضالك بقوسك وتأدبك فرسك وملاعبتك أهلك فانها من الحق " وجاء في رواية أخرها النسائي وغيره " كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال مشى الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة " وجاء أيضاً " انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إليّ ان الله تعالى ليدخل بالسهم والواحد ثلاثة الجنة صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى ". وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعلموا الرمي بالبندي والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واستد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أر اده والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سبباً للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} {وَمِن رّبَاطِ الخيل} الرباط قيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال: ربط ربطاً ورباطا ورابط مرابطة ورباطا. واعترض بأنه يلزم على ذلك اضافة الشيء لنفسه. ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقاً إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي. وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب، ومصدر رابطت أن لازمت فاضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال: عين الشمس وعين الميزان، قيل: ومنه يعلم أنه يجوز أضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركاً، وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية، وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب. وعن عكرمة تفسيره بإناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريباً بعيد، وذكر ابن المنيران المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدراً، وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصوناً وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله: ولقد علمت على تجنبي الردا *** أن الحصون الخيل لا مدر القرى وقال: وحصنى من الأحداث ظهر حصاني *** وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح " الخيل معقود في نواصها الخير إلى يوم القيامة ". وأخرج أحمد عن معقل بن يسار. والنسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وميز صلى الله عليه وسلم بعض أصنافها على بعض. فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه " التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الارثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى ". وأخرج أبو داود. والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل» واختلف في تفسيره ففي النهاية الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيهاً بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالباً وقيل: هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة، وقيل: هو أن تكون احدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين، وإنما كرهه عليه الصلاة والسلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة، ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة، وقيل: إذا كان مع ذلك أغرب زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى. ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال: إنه يخصص عمومه وإن حديث التفاؤل غير ظاهر، والظاهر التشاؤم وقد جاء «إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار» وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزي عليها، لكن قال الجلال السيوطي في فتح المطلب المبرور: أن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد اختلف العلماء فيه هل هو على ظاهره أو مؤول؟ والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى. ولا يعارضه ما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ذكر الشؤم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس» فانه ليس نصا في استثناء نقيض المقدم وان حمله عياض على ذلك لاحتمال أن يكون على حد قوله صلى الله عليه وسلم: «قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتى منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب» وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والاختصاص ونظيره في ذلك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا مخطور في اعتقاد ذلك بعد اعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى: وقرأ الحسن {وَمِنْ رّبَاطِ الخيل} بضم الباء وسكونها جمع رباط، وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للايذان بفضلها على سائر افرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوفون به، وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن يعقوب أنه قرأ {تُرْهِبُونَ} بالتشديد. وقرأ ابن عباس. ومجاهد {تُخْزُونِ} والضمير المجرور لما استطعتم أو للاعداد وهو الأنسب، والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به، أو من الموصول كما قال أبو البقاء، أو من عائدة المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به، وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على ارهاب المسلمين بذلك {عَدْوَّ الله} المخالفين لأمره سبحانه {وَعَدُوَّكُمْ} المتربصين بكم الدوائر، والمراد بهم على ما ذكره جمع أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة، وقيل: المراد هم وسائر كفاء العرب {وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي من غيرهم من الكفرة، وقال مجاهد: هم بنو قريظة، وقال مقاتل: وابن زيد: هم المنافقون، وقال السدى: هم أهل فارس. وأخرج الطبراني. وأبو الشيخ. وابن المنذر. وابن مردويه. وابن عساكر. وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم الجن ولا يخبل الشيطان إنساناً في داره فرس عتيق» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً، واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه، وقوله سبحانه: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم {الله يَعْلَمُهُمْ} لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهو المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر. نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناءً على إطلاق العارف عليه تعالى في «نهج البلاغة» وفيه بحث، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وقال: إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظراً إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضاً وهو مسلم نظراً إلى تفسيره، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه تردد. {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} جل أو قل {فِى سَبِيلِ الله} وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الإعداد السابق والجهاد دخولاً أولياً، وبعضهم خصص اعتباراً للمقام {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يؤدي بتمامه والمراد يؤدي إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقص الثواب، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر.
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} {وَإِن جَنَحُواْ} الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا {لِلسَّلْمِ} أي الاستسلام والصلح. وقرأ ابن عباس. وأبو بكر. بكسر السين وهو لغة {فاجنح لَهَا} أي للسم، والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي. وقال أبو البقاء: إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا: السلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب تكفيك من أنفاسها جرع وقرأ الأشهب العقيلي {فاجنح} بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فإنها كما قال مجاهد. والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناءً على أنهم المعنيون بقوله تعالى: {الذين عاهدت} [الأنفال: 56] الخ، والضمير في {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} [الأنفال: 60] لهم، وقيل: هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فإنه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فتذكر، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد {أَنَّهُ} جل شأنه {هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع {العليم} فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار السلم {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم، فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير: إني وجدت من المكارم حسبكم *** أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا وقال الزجاج: إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب، وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا {هُوَ} عز وجل {الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} استئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم فإن تأييده عليه الصلاة والسلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلى الله عليه وسلم فيما سيأتي، أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة، أو بالملائكة مع خرقه للعادات {وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر. وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه. والنعمان بن بشير. وابن عباس. والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة. وقيل: إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا. واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه. وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيداً بهم يشعر بكونهم أنصاراً ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصاراً، وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة والسلام {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً} أي لتأليف ما بينهم {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها، والجملة استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ، والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في انتفاء ذلك من منفق معين، وذكر القلوب للإشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهراً {ولكن الله} جلت قدرته {أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالباً بقدرته البالغة {إِنَّهُ عَزِيزٌ} كامل القدرة والغلبة لا يستعصى عليه سبحانه شيء يما يريد {حَكِيمٌ} يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عز وجل، ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية، ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم، وصاروا جميعاً كنانة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنه بقوس واحدة، والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا. ومن باب الإشارة في الآيات: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء} إلى قوله سبحانه: {والله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 41 48] طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال: {واعلموا} أي أيها القوى الروحانية {أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء} من العلوم النافعة {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين {وَلِلرَّسُولِ} الخاص وهو القلب {وَلِذِى القربى} الذي هو السر {واليتامى} من القوة النظرية والعملية {والمساكين} من القوى النفسانية {وابن السبيل} الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنمية تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية {وَقَالَ موسى ياقوم إِن} تعالى الإيمان الحقيقي جمعاً {وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلاً {يَوْمَ التقى الجمعان} من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} أي القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني {وَهُم بالعدوة القصوى} أي البعيدة من الحق {والراكب} أي ركب القوى الطبيعية الممتارة {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} معشر الفريقين {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} اللقاء للمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} لكون ذلك أصعب من خرط القتاد {ولكن لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} قدراً محققاً فعل ذلك {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء {وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42] وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء، وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والاتصال {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} أيها القلب {فِى مَنَامِكَ} وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدوء القوى البدنية {قَلِيلاً} أي قليل القدر ضعاف الحال {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} في حال غلبة صفات النفس {لَّفَشِلْتُمْ ولتنازعتم فِى الامر} أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة {ولكن الله سَلَّمَ} من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الأنفال: 43] أي بحقيقتها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهم وحدودهم {بَطَراً} فخراً وأشراً {وَرِئَاء الناس} وإظهاراً للجلادة. وقال بعضهم: حذر الله تعالى بهذه الآية أولياءه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنفال: 47] وهو التوحيد والمعرفة {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان} أي شيطان الوهم {أعمالهم} في التغلب على مملكة القلب وقواه {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس} أوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى {وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية {فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني {وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ} لأني لست من جنسكم {إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس {إِنّى أَخَافُ الله} سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره، وذكر الواسطي بناءً على أن المراد من الشيطان الظاهر، أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسناً إذا كان إجلالاً وحياءً من الله تعالى لا خوفاً من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك {والله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 48] إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال اه بأدنى تغيير وزيادة. وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس {الملائكة} أي ملائكة القهر والعذاب {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} لإعراضهم عن عالم الأنوار ومزيد الكبر والعجب {وأدبارهم} لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50] وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] أي حتى يفسدوا استعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذٍ يغير سبحانه النعمة إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الاستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء استحقاقها فيه. {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 50] لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم {الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ} من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم، ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] العار ولا النار {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قال أبو علي الروزباري: القوة هي الثقة بالله تعالى، وقال بعضهم: هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسي الخضوع والاستكانة {هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} الذي لم يعهد مثله {وبالمؤمنين} [الأنفال: 62] بجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء، أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} {مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى} شروع في بيان كفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في جميع أموره وحده أو مع أمور المؤمنين أو في الأمور المتعلقة بالكفار كافة إثر بيان الكفاية في مادة خاصة؛ وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للنداء والتنبيه على الاعتناء بمضمونها، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعلية الحكم كأنه قيل: يا أيها النبي {حَسْبَكَ الله} أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحراب لنبوتك. {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} قال الزجاج: في محل النصب على المفعول معه كقوله على بعض الروايات: فحسبك والضحاك سيف مهند *** إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا وتعقبه أبو حيان بأنه مخالف لكلام سيبويه فإنه جعل زيداً في قولهم: حسبك وزيداً درهم منصوباً بفعل مقدر أي وكفى زيداً درهم وهو من عطف الجمل عنده انتهى، وأنت تعلم أن سيبويه كما قال ابن تيمية لأبي حيان لما احتج عليه بكلامه حين أنشد له قصيدة فغلطه فيها ليس نبي النحو فيجب اتباعه، وقال الفراء: إنه يقدر نصبه على موضع الكاف، واختاره ابن عطية، وورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وفيه ما فيه. وجوز أن يكون في محل الجر عطفاً على الضمير المجرور وهو جائز عند الكوفيين بدون إعادة الجار ومنعه البصريون بدون ذلك لأنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه، وأن يكون في محل رفع إما على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله تعالى، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وحسبك من اتبعك، وإما على أنه عطف على الاسم الجليل واختاره الكسائي. وغيره. وضعف بأن الواو للجمع ولا يحسن ههنا كما لم يحسن في ما شاء الله تعالى وشئت والحسن فيه ثم وفي الإخبار ما يدل عليه اللهم إلا أن يقال بالفرق بين وقوع ذلك منه تعالى وبين وقوعه منا. والآية على ما روي عن الكلبي نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، والظاهر شمولها للمهاجرين والأنصار. وعن الزهري أنها نزلت في الأنصار. وأخرج الطبراني. وغيره عن ابن عباس. وابن المنذر عن ابن جبير. وأبو الشيخ عن ابن المسيب أنها نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مكملاً أربعين مسلماً ذكوراً وإناثاً هن ست وحينئذٍ تكون مكية. و{مِنْ} يحتمل أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية وذلك للاختلاف في المراد بالموصول.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} {ياأيها النبى حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} بعد أن بين سبحانه الكفاية أمر جل شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم بترتيب بعض مباديها، وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به، والتحريض الحث على الشيء. وقال الزجاج: هو في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك، وعلى هذا فهو للمبالغة في الحث، وزعم في «الدر المصون» أن ذلك مستبعد من الزجاج، والحق معه، ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ويقال: أحرضته إذا أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى، فالمعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على قتال الكفار. وجوز أن يكون من تحريض الشخص وهو أن يسميه حرضاً ويقال له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر ومحرضاً فيه، ونحوه فسقته أي سميته فاسقاً، فالمعنى سمهم حرضاً وهو من باب التهييج والإلهاب، والمعنى الأول هو الظاهر. وقرىء {حرص} بالصاد المهملة من الحرص وهو واضح. {القتال إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله تعالى وتأييده، فالجملة خبرية لفظاً إنشائياً معنى، والمراد ليصبرن الواحد لعشرة وليست بخبر محض، وجعلها الزمخشري عدة من الله تعالى وبشارة وهو ظاهر في كونها خبرية، والآية كما ستعلم قريباً إن شاء الله تعالى منسوخة، والنسخ في الخبر فيه كلام في الأصول، على أنه قد ذكر الإمام أنه لو كان الكلام خبراً لزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه ليس كذلك، والاعتراض عليه بأن التعليق الشرطي يكفي فيه ترتب الجزاء على الشرط في بعض الأزمان لا في كلها ليس بشيء كما بينه الشهاب، وذكر الشرطية الثانية مع انفهام مضمونها مما قبلها للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف وكذا يقال فيما يأتي. و{يَكُنِ} يحتمل أن يكون تاماً والمرفوع فاعله و{مّنكُمْ} حال منه أو متعلق بالفعل ويحتمل أن يكون ناقصاً والمرفوع اسمه و{مّنكُمْ} خبره، وقوله تعالى: {مّنَ الذين كَفَرُواْ} بيان للألف، وقوله سبحانه: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعل المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان، وقال بعضهم: وجه التعليل بما ذكر أن من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح فيقول الواحد من مثله مقام الكثير انتهى.
{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} وتعقب بأنه كلام حق لكنه لا يلائم المقام {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] الخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف وهل يعد ذلك نسخاً أم لا؟ قولان اختار مكي الثاني منهما وقال: إن الآية مخففة؛ ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر، وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا: إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا فعلى الأول لا يأثم وعلى الثاني يأثم، والضعف الطارىء بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم قوم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك، وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سبباً للضعف أن بها يضعف الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الاعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر، ومن هنا قال النصراباذي: إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أحول، وتقييد التخفيف بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فباعتبار تعلقه، وقد قالوا: إن له تعلقاً بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي: المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم. وقرأ أكثر القراء {ضعافا} بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث. ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن. وقرأ أبو جعفر {ضُعَفَاء} جمع ضعيف، وقرأ ابن كثير. ونافع. وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء اعتباراً للتأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو. ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] فالجميع على التذكير فيه. نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث {الله مَعَ الصابرين} تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفي النظم الكريم صنعة الاحتباك قال في «البحر»: انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيداً في الجملة الأولى وهو {صابرون} [الأنفال: 65] وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيداً في الثانية وهو {مّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه: {والله مَعَ الصابرين} مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاءً بما قبله انتهى. وذكر الشهاب أنه بقي عليه ابه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتماً لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم، وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر فللَّه تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} قرأ أبو الدرداء. وأبو حيوة {لِلنَّبِىّ} بالتعريف والمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام المراد أيضاً على قراءة الجمهور عند البعض، وإنما عبر بذلك تلطفاً به صلى الله عليه وسلم حتى لا يوجه بالعتاب، ولذا قيل: إن ذاك على تقدير مضاف أي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى الآتي: {تُرِيدُونَ} ولو قصد بخصوصه عليه الصلاة والسلام لقيل: تريد، ولأن الأمور الواقعة في القصة صدرت منهم لا منه صلى الله عليه وسلم وفيه نظر ظاهر، والظاهر أن المراد على قراءة الجمهور العموم ولا يبعد اعتباره على القراءة الأخرى أيضاً وهو أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى}. قرأ أبو عمرو. ويعقوب {تَكُونُ} بالتاء الفوقية اعتباراً لتأنيث الجمع، وعن أبي جعفر أنه قرأ أيضاً {أسارى} قال أبو علي: وقراءة الجماعة أقيس لأن أسيرا فعيل بمعنى مفعول، والمطرد فيه جمعه على فعلى كجريح وجرحى وقتيل وقتلى، ولذا قالوا في جمعه على أسارى: إنه على تشبيه فعيل بفعلان ككسلان وكسالى، وهذا كما قالوا كسلى تشبيهاً لفعلان بفعيل ونسب ذلك إلى الخليل، وقال الأزهري: إنه جمع أسرى فيكون جمع الجمع، واختار ذلك الزجاج وقال: إن فعلى جمع لكل من أصيب في بدنه أو في عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى {حتى يُثْخِنَ فِي الارض} أي يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله، وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل، وقيل: إن الاستعارة مبنية على تشبيه المبالغة المذكورة بالثخانة في أن في كل منهما شدة في الجملة، وذكر في الأرض للتعميم، وقرىء {يُثْخِنَ} بالتشديد للمبالغة في المبالغة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} استئناف مسوق للعتاب، والعرض ما لا ثبات له ولو جسماً. وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر» أي لا ثبات لها، ومنه استعاروا العرض المقابل للجوهر، أي تريدون حطام الدنيا بأخذكم الفدية، وقرىء {يُرِيدُونَ} بالياء، والظاهر أن ضمير الجمع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {والله يُرِيدُ الاخرة} أي يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من الطاعة بإعزاز دينه وقمع أعدائه، فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذكر نيل في الاحتمال الثاني قيل: للتوضيح لا لتقدير مضافين، والإرادة هنا بمعنى الرضا، وعبر بذلك للمشاكلة فلا حجة في الآية على عدم وقوع مراد الله تعالى كما يزعمه المعتزلة، وزيادة لكم لأنه المراد، وقرأ سليمان بن جماز المدني {الاخرة} بالجر وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره، وقدره أبو البقاء عرض الآخرة وهو من باب المشاكلة وإلا فلا يحسن لأن أمور الآخرة مستمرة، ولو قيل: إن المضاف المحذوف على القراءة الأولى ذلك لذلك أيضاً لم يبعد، وقدر بعضهم هنا كما قدرنا هناك من الثواب أو السبب، ونظير ما ذكر قوله: أكل امرىء تحسبين أمرأ *** ونار توقد في الليل ناراً في رواية من جرنار الأولى، وأبو الحسن يحمله على العطف على معمولي عاملين مختلفين {والله عَزِيزٌ} يغلب أولياءه على أعدائه {حَكِيمٌ} يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفدية حيث كان الإسلام غضاً وشوكة أعدائه قوية، وخير بينه وبين المن بقوله تعالى: {فإمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4] لما تحولت الحال واستغلظ زرع الإسلام واستقام على سوقه. أخرج أحمد. والترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر جىء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فاضرمه عليهم ناراً. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 63] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 811] ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذا قال: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} [يونس: 88] ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 62] أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء ". وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: " أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم ". واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ، وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليداً لأنه لا يجوز له التقليد، وأما أنها إنما تدل على اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليداً لأنه لا يجوز له التقليد، وأما إنها إنما تدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة والسلام جاز لغيره بالطريق الأولى، وتمام البحث في كتب الأصول، لكن بقي ههنا شيء وهو أنه قد جاء من اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطىء وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا؟ لم أر من تعرض لتحقيق ذلك، وإذا قيل: بالأول لا يتم الاستدلال بالآية كما لا يخفى.
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوماً قبل تقديم ما يبين لهم أمراً أو نهياً، وروى ذلك الطبراني في الأوسط. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطىء في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أوان لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم، فقد روى الشيخان وغيرهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدراً: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضاً. وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدراً من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته. ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الزوافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عز وجل، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالاً لهم. واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلاً لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعى عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: {لَمَسَّكُمْ} أي لأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادر قدره. وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سبباً للعفو ومانعاً عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سبباً للانتقام ومانعاً من العفو تغليباً لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريباً لكم، ومثل ذلك نظراً إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سبباً للعفو ومانعاً عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه واخرجاهما. والبيهقي. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لمانعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الحبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن يكون في كل مرة ذكر أمراً واحداً من تلك الأمور، والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم، وقال بعضهم: إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينهبون وفيه نظر، لأنه إن أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد انقضاء الحرب، وحينئذٍ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى، وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان؛ فلا يصح نفي المس حينئذٍ. نعم أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: «لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب. وسعد بن معاذ لقوله: كان الأثخان في القتل أحب إلي» وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء، وحينئذٍ لا يرد أنه استشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذاباً، لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة.
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)} {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} قال محيي السنة: روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية، فالمراد مما غنمتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقاً من قوله سبحانه: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} [الأنفال: 41] الخ بل قال بعضهم: إن الحل معلوم قبل ذلك بناءً على ما في كتاب «الأحكام» أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيراً لقريش وقدموا بها على النبي صلى الله عليه وسلم فاقتسموها وأقرهم على ذلك. ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك، وقيل: المراد بما غنمتم الغنائم من غير اندراج الفدية فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهداً منهم لا ظناً لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سباق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر. والفاء للعطف على سبب مقدر، أي قد أحبت لكم الغنائم فكلوا مثلاً، وقيل: قد يستغني عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه، وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه، أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الإباء، وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة، وقوله تعالى: {حلالا} حال من {مَا} الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً، وفائدة ذكره وكذا ذكر قوله تعالى: {طَيّباً} تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة {واتقوا الله} في مخالفته {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه، وقيل: فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه.
|